قراءة فى أفلام الدورة الـ١٧ لمهرجان سلا الدولي لأفلام المرأة

قراءة فى أفلام الدورة الـ١٧ لمهرجان سلا الدولي لأفلام المرأة
كتبت :أميرة خالد عشر تجارب شهدتها مسابقة الأفلام الروائية الطويلة هذا العام ضمن فعاليات الدورة الأخيرة من مهرجان سلا الدولى لأفلام المرأة، المهرجان الذى يتخذ من حى كريمة الشعبى بمدينة سلا المغربية موطئ قدم حيوى عبر سينما هوليوود- التى تم تجديدها خصيصا من أجل المهرجان- خالقا حالة اندماج مميزة وحميمية بين السينما كفن شعبى فى المقام الأول- مهما كانت نخبوية بعض تجاربه- وبين الشرائح التى يراد أن يصلها المد الثقافى المقاوم لسطحية السوشيال ميديا ومنصات هدم الوعى وترشيد استخدام الخيال.    
من بين الأفلام العشرة التى ضمتها المسابقة الرسمية لدينا أربعة أفلام تنتمى لفئة العمل الأول، أبرزها الماليزى «المرعب خطوط النمر» للمخرجة الشابة أماندا نيل أيو- وهو الفيلم المرشح من قبل ماليزيا هذا العام لتمثيلها فى الاوسكار أفضل فيلم أجنبى- والفيلم الأمريكى «الشخص الجيد» لأنديا دونالدسون، والإسبانى «الصورة الدائمة» للورا فيريس، والكولومبى «وحش شعبى» لكاميلا بلتران. تبدو رباعية الأعمال الأولى وكأنها نتاج عقل جمعى مفعم بالغضب والسؤال والتمرد، وكأنها وحى من خاطر جال أركان الأرض الأربعة فقررت المخرجات الأربع أن ينقشن أثر ما تركه على نفوسهن فوق الشاشات، تشترك الأفلام الأربعة فى تيمة رئيسية وهى البلوغ، أو محاولة التحديق فى العالم الكبير عبر عينى مراهقة تقف على الحافة ما بين نعومة الطفولة وخشونة الوجود المفعم بالقهر والغموض وتعدد السلطات الغاشمة. بل إن كلا من الفيلمين الماليزى «خطوط النمر»، الكولومبى «وحش شعبى» يحتفيان بنفس درجة التمرد والخروج على السلطة التى تمارسها المراهقات اللاتى يتصدرن بطولة الفيلمين، ففى الفيلم الأول تتحول زافان الماليزية الصغيرة عاشقة التيك توك والتى تعيش فى كنف والد باهت الحضور وأم متسلطة إلى نمر يسكن الغابة القريبة يكره سلطات المدرسة والبيت والشيخ التافه الذى يدعى قدرته على أن يُخرج من جسدها العفريت التى تلبسها بخطوطه المموهة وذيله الطويل الذى يخرج من ظهرها.  
  وفى الجهة الأخرى من زافان توجد ميلا التى تعيش فى بوغوتا عام ٩٦- فى الفيلم الكولومبى- ضمن شلة مراهقات ينتظرن حضور الشيطان إلى المدينة من أجل أن يتغير إيقاعها البطىء، فإذا بها تتحول إلى بومة خارقة تحلق فوق كل القيود التى تشدها إلى مجتمع خامل لا مجال فيه للأسئلة ولا الحركة الحرة. أما فى كل من الأمريكى «الشخص الجيد» والإسبانى «الصورة الدائمة» فثمة تلك الرغبة فى الانفلات من قيود الكبار وخمولهم المربك، فالمراهقة الأمريكية سام التى تذهب مع والدها وصديقه إلى الغابات من أجل أن تتخلص من أعباء المدينة عبر التخييم فى المساحات المفتوحة، تجد نفسها واقعة بين مسؤوليات البنوة المملة وبين حالة التراشق العنيفة بين الأب والصديق، تحاول أن تقوم بدور حاملة غصن السلام بينهما، لكن عنفهما المتبادل والمبطن أسفل صداقتهما المتينة يدفعنا للتساؤل حول ماهية عالم الكبار الذى يختلف ظاهره الأخضر مثل المساحات التى يتحركون فيها للتخييم عن باطنه المشوش بالتراكمات والأسرار والرغبات الدفينة فى التشفى أو حتى الانتقام. ويقودنا الإسبانى «الصورة الدائمة» إلى أنطونيا الأم المراهقة التى لا ترغب فى أن تلج عالم الكبار وهى تحمل طفلا لم تتهيأ بعد لملاقاته كجزء من روحها القلقة وجسدها الشاب، فتتركه وتهرب، لسنوات طويلة، لكى تلتقى بعد نصف قرن تقريبا بشابة تأتى المدينة لكى تصنع فيلما عن انطباعات الأشخاص الذين يأتون إلى المدن الجديدة لأول مرة، وتلتقى بأنطونيا التى لا يبدو أن تمردها على السلطة الأمومية التى منحت لها لم يشف غليل المراهقة التى كانتها ذات يوم وظلت قابعة فى داخلها لأن تجربتها الوجودية لم تكتمل كما يجب.  
    الأم ليست مدرسة   تتقاطع الأفلام الأربعة المشار إليها مع تيمة أخرى تعلن عن نفسها فى بقية تجارب المسابقة وهى تيمة التمرد على سلطة الأم، والأم تحديدا!. عادة ما تواجه الأفلام المنتجة من قبل الوعى أو الحساسية النسائية إشارات تخص نمطية التعامل مع السلطة الذكورية أو أركان المجتمع الأبوى الذى يحاصرها جسديا وروحيا، ولكن عبر تتبع مجموعة الأفلام التى ضمتها مسابقة مهرجان سلا هذا العام سوف نعثر على محاولات متعددة ومعلنة للخوض فى سياقات التمرد على السلطة الأمومية، على وضع الأم فى هرم الأسرة أو فوق عرش النور الهادى لكل ما هو صالح، والذى يرفض أن يكون ما يأتيه من بين يديه باطلا كما هو فى نظر المراهقات اللائى يرغبن فى تحدى تلك السلطة التى تبدو فى أحيان عديدة أكثر خشونة من يد الذكور الباطشة.  
  فى الفيلم الفرنسى الألمانى «لغة أجنبية» للمخرجة كلير بيرجر– الحاصل على تنويه خاص من لجنة التحكيم- تهرب المراهقة الفرنسية فانى إلى ألمانيا فى رحلة تبادل ثقافى لغوى بعيدا عن شعورها بعدم الإندماج فى مجتمع أصبح لديه حساسية ونفور من أى اختلاف مرئى أو محسوس، وفى ألمانيا تنخرط فى علاقة حميمية مع لينا التى تقيم فى بيتهم، وتبدو لينا هى الوجه الآخر لفانى، أو كأنهم فتاة واحدة بوجهين، حيث تعانى لينا من تشرذم أسرى عنيف نتيجة افنصال والديها وإدمان أمها– اللطيفة- للخمر بينما تكتشف فانى أن ألمانيا لا تقل عنصرية وحساسية تجاه الآخر من فرنسا، لكن فى مقابل رقة فانى وخفوتها الشخصى وانزوائها تبدو لينا على العكس تماما، جريئة وقابضة على رغبتها فى أن تصبح ناشطة سياسية ضد ممارسات قارتها بالكامل- وليس فقط ألمانيا- ومع استغراق الفتاتين فى علاقتهما الجسدية الشفافة، يبتعد الفيلم عن كونه يحكى علاقة «كويرية» خاصة، بل يستغلها فى أن يدمج ما بين فانى ولينا ليشكلا عين الجيل الجديد الذى ينظر إلى الوطن الأم على اعتبار أنه كيان عنصرى وضاغط ورافض للتمدد الإنسانى بصورة سوية، ومن هنا يبدو عنوان الفيلم أكثر قدرة على تأويل سياقه بصورة أعمق، فاللغة الأجنبية المقصودة ليست هى برنامج التبادل اللغوى بين فرنسا وألمانيا والذى يبدو السبب وراء تعارف الفتاتين، ولكنه الانفصال بين وجهات نظر الأجيال الجديدة فى أوروبا وبين (أمومة) الوطن أو البلد/ الأم– تعانى كل من أم فانى وأم لينا من جروح عميقة نتيجة خيانة الآباء/الأزواج- وبالتالى تصبح اللغة الأم مجرد لغة أجنبية على اللسان الأصلى، لأن التواصل مفقود والشعور بالدفء متبخر، ويكفى أن نشير إلى أن المشهد الأخير بالفيلم عبارة عن عملية فض اعتصام لمجموعة من الشباب على رأسهم لينا وفانى من قبل قوات الشرطة، يتم عرضه بالبطئ لنرى كم المقاومة والأعتراض والرفض الذى تبديه الفتاتين تجاه الشرطة/ السلطة، وكأن مانفيستو أو تكريس لما يرغب الفيلم فى تأصيله عن هذه الأجيال التى تتوعد لكل النخب التى تعلوها (اجتماعية كانت أو سياسية) بالرفض والثورة ضد كل ما ترفضه.  
Indivision
  وبالعودة للفيلم الماليزى «خطوط النمر» نجد أن واحد من الأسباب الرئيسية لتمرد فازان الصغيرة- التى نراها فى البداية تقوم بعمل تيك توك مرح تخلع فيه الحجاب وزى المدرسة وترقص بسعادة وحرية- هو صوت ناظرة المدرسة التى تجلس التلميذات كل صباح فى طابور- ذنب- أمامها لتلقنهم عبر صوتها الرفيع المستفز فى الميكروفون أصول التقاليد واستمرار لفرضية محاكمة الوطن/ الأم يمكن أن نتوقف أمام الفيلم الحائز على الجائزة الكبرى بالمهرجان وهو الفنلندى «جوفيدا» للمخرجة كاتيا غوريلوف وهى مخرجة تنتمى إلى قبيلة أو عرق اسكندنافى من السكان الأصليين للشمال وفيلمها ناطق بلغة عرقها الأصلية (سامى سكولت) وفى تقديمها له قبل العرض بالمهرجان صرحت بأنها استوحته من حياة أمها التى تنتمى لنفس العرق، وأن صناعة الفيلم هو محاولة لعرض جانب من تاريخها قبيلتها التى لم يعد باقى منها سوى ٣٠٠ شخص فقط يتحدثون اللغة ويحاولون المحافظة على ما تبقى من أثرهم التراثى والثقافى.  
img
الكاتب

أميرة خالد

التعليقات

أضف تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول المطلوبة مميزة بعلامة *