كتبت :أميرة خالد
عشر تجارب شهدتها مسابقة الأفلام الروائية الطويلة هذا العام ضمن فعاليات الدورة الأخيرة من مهرجان سلا الدولى لأفلام المرأة، المهرجان الذى يتخذ من حى كريمة الشعبى بمدينة سلا المغربية موطئ قدم حيوى عبر سينما هوليوود- التى تم تجديدها خصيصا من أجل المهرجان- خالقا حالة اندماج مميزة وحميمية بين السينما كفن شعبى فى المقام الأول- مهما كانت نخبوية بعض تجاربه- وبين الشرائح التى يراد أن يصلها المد الثقافى المقاوم لسطحية السوشيال ميديا ومنصات هدم الوعى وترشيد استخدام الخيال.
من بين الأفلام العشرة التى ضمتها المسابقة الرسمية لدينا أربعة أفلام تنتمى لفئة العمل الأول، أبرزها الماليزى «المرعب خطوط النمر» للمخرجة الشابة أماندا نيل أيو- وهو الفيلم المرشح من قبل ماليزيا هذا العام لتمثيلها فى الاوسكار أفضل فيلم أجنبى- والفيلم الأمريكى «الشخص الجيد» لأنديا دونالدسون، والإسبانى «الصورة الدائمة» للورا فيريس، والكولومبى «وحش شعبى» لكاميلا بلتران.
تبدو رباعية الأعمال الأولى وكأنها نتاج عقل جمعى مفعم بالغضب والسؤال والتمرد، وكأنها وحى من خاطر جال أركان الأرض الأربعة فقررت المخرجات الأربع أن ينقشن أثر ما تركه على نفوسهن فوق الشاشات، تشترك الأفلام الأربعة فى تيمة رئيسية وهى البلوغ، أو محاولة التحديق فى العالم الكبير عبر عينى مراهقة تقف على الحافة ما بين نعومة الطفولة وخشونة الوجود المفعم بالقهر والغموض وتعدد السلطات الغاشمة.
بل إن كلا من الفيلمين الماليزى «خطوط النمر»، الكولومبى «وحش شعبى» يحتفيان بنفس درجة التمرد والخروج على السلطة التى تمارسها المراهقات اللاتى يتصدرن بطولة الفيلمين، ففى الفيلم الأول تتحول زافان الماليزية الصغيرة عاشقة التيك توك والتى تعيش فى كنف والد باهت الحضور وأم متسلطة إلى نمر يسكن الغابة القريبة يكره سلطات المدرسة والبيت والشيخ التافه الذى يدعى قدرته على أن يُخرج من جسدها العفريت التى تلبسها بخطوطه المموهة وذيله الطويل الذى يخرج من ظهرها.
وفى الجهة الأخرى من زافان توجد ميلا التى تعيش فى بوغوتا عام ٩٦- فى الفيلم الكولومبى- ضمن شلة مراهقات ينتظرن حضور الشيطان إلى المدينة من أجل أن يتغير إيقاعها البطىء، فإذا بها تتحول إلى بومة خارقة تحلق فوق كل القيود التى تشدها إلى مجتمع خامل لا مجال فيه للأسئلة ولا الحركة الحرة.
أما فى كل من الأمريكى «الشخص الجيد» والإسبانى «الصورة الدائمة» فثمة تلك الرغبة فى الانفلات من قيود الكبار وخمولهم المربك، فالمراهقة الأمريكية سام التى تذهب مع والدها وصديقه إلى الغابات من أجل أن تتخلص من أعباء المدينة عبر التخييم فى المساحات المفتوحة، تجد نفسها واقعة بين مسؤوليات البنوة المملة وبين حالة التراشق العنيفة بين الأب والصديق، تحاول أن تقوم بدور حاملة غصن السلام بينهما، لكن عنفهما المتبادل والمبطن أسفل صداقتهما المتينة يدفعنا للتساؤل حول ماهية عالم الكبار الذى يختلف ظاهره الأخضر مثل المساحات التى يتحركون فيها للتخييم عن باطنه المشوش بالتراكمات والأسرار والرغبات الدفينة فى التشفى أو حتى الانتقام. ويقودنا الإسبانى «الصورة الدائمة» إلى أنطونيا الأم المراهقة التى لا ترغب فى أن تلج عالم الكبار وهى تحمل طفلا لم تتهيأ بعد لملاقاته كجزء من روحها القلقة وجسدها الشاب، فتتركه وتهرب، لسنوات طويلة، لكى تلتقى بعد نصف قرن تقريبا بشابة تأتى المدينة لكى تصنع فيلما عن انطباعات الأشخاص الذين يأتون إلى المدن الجديدة لأول مرة، وتلتقى بأنطونيا التى لا يبدو أن تمردها على السلطة الأمومية التى منحت لها لم يشف غليل المراهقة التى كانتها ذات يوم وظلت قابعة فى داخلها لأن تجربتها الوجودية لم تكتمل كما يجب.
الأم ليست مدرسة
تتقاطع الأفلام الأربعة المشار إليها مع تيمة أخرى تعلن عن نفسها فى بقية تجارب المسابقة وهى تيمة التمرد على سلطة الأم، والأم تحديدا!.
عادة ما تواجه الأفلام المنتجة من قبل الوعى أو الحساسية النسائية إشارات تخص نمطية التعامل مع السلطة الذكورية أو أركان المجتمع الأبوى الذى يحاصرها جسديا وروحيا، ولكن عبر تتبع مجموعة الأفلام التى ضمتها مسابقة مهرجان سلا هذا العام سوف نعثر على محاولات متعددة ومعلنة للخوض فى سياقات التمرد على السلطة الأمومية، على وضع الأم فى هرم الأسرة أو فوق عرش النور الهادى لكل ما هو صالح، والذى يرفض أن يكون ما يأتيه من بين يديه باطلا كما هو فى نظر المراهقات اللائى يرغبن فى تحدى تلك السلطة التى تبدو فى أحيان عديدة أكثر خشونة من يد الذكور الباطشة.
فى الفيلم الفرنسى الألمانى «لغة أجنبية» للمخرجة كلير بيرجر– الحاصل على تنويه خاص من لجنة التحكيم- تهرب المراهقة الفرنسية فانى إلى ألمانيا فى رحلة تبادل ثقافى لغوى بعيدا عن شعورها بعدم الإندماج فى مجتمع أصبح لديه حساسية ونفور من أى اختلاف مرئى أو محسوس، وفى ألمانيا تنخرط فى علاقة حميمية مع لينا التى تقيم فى بيتهم، وتبدو لينا هى الوجه الآخر لفانى، أو كأنهم فتاة واحدة بوجهين، حيث تعانى لينا من تشرذم أسرى عنيف نتيجة افنصال والديها وإدمان أمها– اللطيفة- للخمر بينما تكتشف فانى أن ألمانيا لا تقل عنصرية وحساسية تجاه الآخر من فرنسا، لكن فى مقابل رقة فانى وخفوتها الشخصى وانزوائها تبدو لينا على العكس تماما، جريئة وقابضة على رغبتها فى أن تصبح ناشطة سياسية ضد ممارسات قارتها بالكامل- وليس فقط ألمانيا- ومع استغراق الفتاتين فى علاقتهما الجسدية الشفافة، يبتعد الفيلم عن كونه يحكى علاقة «كويرية» خاصة، بل يستغلها فى أن يدمج ما بين فانى ولينا ليشكلا عين الجيل الجديد الذى ينظر إلى الوطن الأم على اعتبار أنه كيان عنصرى وضاغط ورافض للتمدد الإنسانى بصورة سوية، ومن هنا يبدو عنوان الفيلم أكثر قدرة على تأويل سياقه بصورة أعمق، فاللغة الأجنبية المقصودة ليست هى برنامج التبادل اللغوى بين فرنسا وألمانيا والذى يبدو السبب وراء تعارف الفتاتين، ولكنه الانفصال بين وجهات نظر الأجيال الجديدة فى أوروبا وبين (أمومة) الوطن أو البلد/ الأم– تعانى كل من أم فانى وأم لينا من جروح عميقة نتيجة خيانة الآباء/الأزواج- وبالتالى تصبح اللغة الأم مجرد لغة أجنبية على اللسان الأصلى، لأن التواصل مفقود والشعور بالدفء متبخر، ويكفى أن نشير إلى أن المشهد الأخير بالفيلم عبارة عن عملية فض اعتصام لمجموعة من الشباب على رأسهم لينا وفانى من قبل قوات الشرطة، يتم عرضه بالبطئ لنرى كم المقاومة والأعتراض والرفض الذى تبديه الفتاتين تجاه الشرطة/ السلطة، وكأن مانفيستو أو تكريس لما يرغب الفيلم فى تأصيله عن هذه الأجيال التى تتوعد لكل النخب التى تعلوها (اجتماعية كانت أو سياسية) بالرفض والثورة ضد كل ما ترفضه.
وبالعودة للفيلم الماليزى «خطوط النمر» نجد أن واحد من الأسباب الرئيسية لتمرد فازان الصغيرة- التى نراها فى البداية تقوم بعمل تيك توك مرح تخلع فيه الحجاب وزى المدرسة وترقص بسعادة وحرية- هو صوت ناظرة المدرسة التى تجلس التلميذات كل صباح فى طابور- ذنب- أمامها لتلقنهم عبر صوتها الرفيع المستفز فى الميكروفون أصول التقاليد واستمرار لفرضية محاكمة الوطن/ الأم يمكن أن نتوقف أمام الفيلم الحائز على الجائزة الكبرى بالمهرجان وهو الفنلندى «جوفيدا» للمخرجة كاتيا غوريلوف وهى مخرجة تنتمى إلى قبيلة أو عرق اسكندنافى من السكان الأصليين للشمال وفيلمها ناطق بلغة عرقها الأصلية (سامى سكولت) وفى تقديمها له قبل العرض بالمهرجان صرحت بأنها استوحته من حياة أمها التى تنتمى لنفس العرق، وأن صناعة الفيلم هو محاولة لعرض جانب من تاريخها قبيلتها التى لم يعد باقى منها سوى ٣٠٠ شخص فقط يتحدثون اللغة ويحاولون المحافظة على ما تبقى من أثرهم التراثى والثقافى.
فيلم «جوفيدا» تدور أحداثه عبر زمنين، الأول هو الحاضر والثانى قبل أكثر من نصف قرن، حيث تذهب خالة وابنة أختها إلى الكوخ القديم/ المنزل الذى نشأت فيه الخالة من أجل البحث عما تبقى من إرث بعيد، وهناك تستعيد الخالة كما هائلا من ذكريات طفولتها فى المكان الذى كان نابضا بالحياة قبل عشرات السنين، وهناك، فى الزمن البعيد/ الحى فى ذاكرة الخالة تبدأ عملية توثيق الحالة الحياتية التى كانت تعيشها قبيلتها، بالملابس وتفاصيل الأفراح والجنازات، ثم تدريجيا ينتقل السيناريو عقب العرض الإثنى لحياة القبيلة إلى كيفية محاولة السلطات المحلية الجديدة أن تدمج العرقيات والقبائل فى إطار الدولة الحديثة! وكيف تتحول عملية الإندماج المطلوبة إلى بطش ثقافى يؤدى إلى الشعور بقسوة طمس اللغة والهوية الشكلية والنفسية للأعراق والقبليات التى سكنت هذه الأرض منذ قرون!.
انشغال المخرجة بالقصة الإنسانية جعلها تقوم بتحييد اللون من الفيلم– حيث قدمت الماضى والحاضر كليهما بالأبيض والأسود- ولما كانت فنلندا أرضا باذخة الجمال على مستوى الطبيعة والألوان، فإن تحييد اللون أفقد البيئة جزءا كبيرا من سحرها، وجعل من رمادية الصورة مساحة لتأصيل الكآبة والخفوت الشعورى والنفسى الذى تحسه الخالة تجاه ذكرياتها البعيدة/ الحية وحاضرها المفعم بالشك فى هذه الذكريات، حتى إنها حين تعثر على صور عائلتها وتذكارات حياتها الأولى تقدم على حرقها بكل صرامة، كأنها تنكرها، بينما تحاول ابنة الأخت أن تنقذ ما تبقى منها حين تستشعر أنها ليست مجرد صور ولكنها كنز حى من تراث عائلتها التى لم تعد باقية على قيد الحضور الإنسانى والثقافى.
يحاكم «جوفيدا» محاولة الوطن/ الأم تحقيق الاندماج عبر طمس الخصوصية، ويشكو بصوت رقيق من أثر تلك المحاولات التى عادة ما تترك ندوبا على نفسية أجيال بأكلمها، تلك الندوب التى لا تزول بفعل الزمن، ولا جريان الحياة، بدليل أن اللون الرمادى الذى سيطر من البداية على الماضى لم ينسحب فى الحاضر! فما أصعب أن تصبح ذكريات الإنسان الحميمية عرضة لاختبار الشك نتيجة لما قاساه أثناء عملية دمجه ثقافيا بحجة التحضر أو الوحدة السياسية، وهى ذراع أخرى من أذرع قضية الهوية التى تنضم فى سياق مسابقة مهرجان سلا إلى مجموع القضايا والأزمات التى أفرغتها المخرجات الشابات على شاشة دار عرض هوليوود طوال أيام الدورة.
تكريمات بدون أفلام
تبقى الإشارة إلى أن مسابقات الدورة الأخيرة خلت من أى فيلم مصرى! سواء على مستوى الروائى أو الوثائقى! وهى ملاحظة يجدر بنا تأمل أسبابها، ولكن لم يخل المهرجان من تمثيل مصر المعتاد على مستوى المكرمين، حيث تم تكريم الممثلة داليا البحيرى فى احتفاء طيب ليلة الافتتاح، وفى اليوم التالى شاركت فى ندوة خاصة بالتكريم استطاعت أن تجيب فيها بذكاء وخبرة على أسئلة الصحافيين المغاربة.
بينما ضمت لجنة التحكيم هذا العام الممثلة هنا شيحة، التى شاركت كلا من أجنيس كوشيس من المجر وأوديل سانكارا من بوركينا فاسو وفرو ألبرت من فرنسا فى تقييم أفلام المسابقة الرسمية وذلك برئاسة المخرجة المغربية المتألقة مؤخرا مريم التوزانى صاحبة أفلام آدم وأزرق القفطان.
كما تجدر الإشارة أيضا إلى أن شاشة سينما هوليوود شهدت لأول مرة هذا العام تدخل مقص الرقيب بشكل غير مفهوم فى قطع مشاهد من الأفلام المعروضة ضمن المسابقة الرسمية!، حيث قام بحذف بعض من أهم مشاهد الفيلم الفرنسى لغة أجنبية- خاصة مشاهد اللقاءات الحميمية بين الفتاتين والتى تشكل جانبا مهم من تأصيل فكرة كونهم يندمجان كشخص واحد- والفيلم اليونانى أنيمال للمخرجة صوفيا أكسارشو والحائز على جائزة لجنة التحكيم الخاصة وجائزة أفضل ممثلة، وهى مسألة معيبة فى حق مهرجان مهم يخطو نحو عقده الثانى بقوة وسمعة فنية ناصعة الجودة، لا يمكن معها تصور أى شكل من أشكال الردة الثقافية التى قد تضر كثيرا بكل ما حققه عبر تاريخ علاقته بما يمكن تعريفه بسينما المرأة والتى تشكل فى عرف الكثيرين صرخات تمرد ونفور وفضح لكل ما هو قسرى وسلطوى وتعسفى.
أحدث التعليقات