مريم يعقوب تكتب:

في رائعة من روائع الروايات التي تجسدت بفيلم “أنا لا أكذب ولكنى أتجمل” والذى قام ببطولته الفنان الراحل أحمد زكى والفنانة آثار الحكيم وكوكبة رائعة من نجوم الفن، قام الكاتب العملاق إحسان عبد القدوس بدق ناقوس الخطر وإلقاء الضوء على قضية مجتمعية تتزايد وتتفاقم بيننا مع مرور الوقت وهى حالة الكذب في رداء التجمل ومحاولات تمريره بالمجتمع في اختلاق للأعذار والتبريرات المناسبة له أو الخوف من قسوة حكم المجتمع والناس على الإنسان الصادق في وقت أصبحت المادة غول يلتهم القيم والمبادئ ويدوس بأقدامه على الطبقة الفقيرة بالمجتمع.

الكذب لا يعرف العمر ولا يعرف التفرقة بين الناجح من الفاشل والشريف من الملوث مثلما فعل إبراهيم بطل الرواية وهو الطالب الجامعي المجتهد الذى ادعى أنه من عائلة ثرية وأن البعض من أقاربه يتقلدوا مناصب رفيعة من مستشارين وأصحاب الحسب والنسب وخلافه حتى يستطيع مواكبة المجتمع الذى وجد نفسه بداخله دون قصد أو ذنب، كل ذنبه أنه كان يجتهد في تحقيق حلمه ويسعى لدخول الجامعة في ظل حياته القاسية وعمله كحانوتى بالمقابر بمساعدة والده في الخفاء، لأنه كان يعلم أن المجتمع لن يرحمه فكانت أكاذيبه أهون بكثير من نظرة الاحتقار والتقليل من شأنه والتي سوف تلاحقه من الجميع، وكأنها وصمة عار لن تغفرها له شهادته الجامعية ولا اجتهاده ولا عمله الشريف.

إن ما بين الكذب والحقيقة تختبئ الكثير من مشاعر الخوف وكأن الحقيقة تمثل فضيحة ولذلك وجد إبراهيم نفسه يكذب ومن وجهة نظره أن كذبه هذا سوف يستره فقال لخيرية زميلته بالجامعة والتي أحبها ( لازم نتجمل علشان نتستر ) والآن بعد مرور ما يقرب من ٣٨ عاما من إنتاج هذا العمل الرائع أصبح كل المجتمع يكذب بكل أطيافه وشرائحه وليس إبراهيم فقط،، أصبحنا نعيش بشكل يومي في كذب يخرج علينا من مكاتب بعض “المحاسيب”، أصبحنا نمارس الكذب على بعضنا البعض كأنه سلوك يومي طبيعي وأصبح الكاذب لا يتجمل في نظر نفسه ونظر البعض بل أصبح حاذقا يحسن التصرف والمكر والدهاء الشديد في كذبه ويملك من الحيل الكثير حتى انقلبت المعايير وتطور الكذب إلى حد التفاخر بالكذب، أصبح كذب إبراهيم بالفعل تجمل عما نعيشه الآن، إن إبراهيم لجأ الى الكذب حتى يستطيع الاختلاط والانخراط في مجتمعه وحتى لا ينظر إليه أحد نظرة دونية، استخدم الكذب مثل المسكن المؤقت ضد الحقيقة المؤلمة إنما الآن أصبح الكذب وسيلة لتسهيل المصالح واعتلاء المناصب وهى تجارة رابحة في عالم تحكمه المظهرية والسطحية، هناك حكمة تقول (لا تبالغ في المجاملة حتى لا تسقط في بئر النفاق) تلك الحكمة أصبحت الآن عين النفاق لأن الكاذب الآن أصبح يصدق كذبته بل ويؤمن بها وهناك مقولة للكاتب البريطاني مالكوم ماجيريدج تقول (البشر لا يصدقون الكذب لأنهم مجبرون على ذلك لكن لأنهم يريدون ذلك) فمن يكذب يعلم جيدا أنه يريد ذلك وأنه من وراء ذلك سوف يجني الكثير من المكاسب حتى وأن كان البعض منها على المستوى العاطفي.

إن قليل من النصب والاحتيال العاطفي يؤدى إلى الكثير من استنزاف مشاعر البشر والسيطرة والهيمنة على عقولهم وقلوبهم من أجل شهوة أو مصلحة أو حتى حب زائف والذي سوف يؤدي إلى كامل الطاعة ومن هنا تأتى الأوامر والنواهي بأشكالها المتعددة وصورها الشيطانية المتنوعة ولن يقف الأمر عند هذا الحد بل أصبح الكذب بروتوكول اجتماعي لا ينحصر ولا يقتصر فقط على الطبقة الفقيرة وإنما أيضا على كل شرائح المجتمع فتنهال علينا التصريحات الكاذبة من مختلف الاوساط اجتماعية التي تمتلك السلطة والمال والمناصب السياسية والإعلامية وخلافه، يقولون مالا يفعلون ويجملون الحقائق وفى عقولهم اقتناع كامل بأنهم يسدون خدمة ولا مانع من بعض الاساليب المساعدة والمساندة لتصديق وتمرير الأكاذيب مثل التملق والوعود والتضليل والكثير من الآفات التي لا تنتهي.

هنا يأتي الأخطر والأشد قسوة وهو أن يصل الكذب إلى تزوير التاريخ وهنا يجب أن نقف وقفة صدق قبل أن يلتهم الكذب تاريخنا المتبقي لنا، هذا إن لم يكن قد التهمه بالفعل، إن وراء كل كذبه تزييف للحقائق بقصد الخداع الذى قد يصل إلى تزوير تاريخ كامل من المفترض ألا يعرف الميل والهوى في كتابته وتأريخه ولا يعرف الخوف من بطش حاكم أو التأثر بدور منتصر، إن تاريخ الشعوب والأمم لا يكتب بيد مرتعشة أو قلم كاذب ولا يعترف بالتجمل مثلما فعل إبراهيم، لا يعترف الا بالصدق والشفافية والحيادية والواقعية أيا كانت صورتها حتى وإن كانت تلك الصورة تتعارض مع مصالح البعض وتتعارض مع أهواء شريحة كاملة من البشر ولأننا لا نمتلك سوى التاريخ.

فيجب أن نحافظ عليه ضد التزييف ونرده إلى صفاته الأساسية و التي للأسف تلاشت كليا ولكن ما لا يعلمه الكثيرون أن للتاريخ ضمير لا يموت وكاف للقصاص من كل قلم كتب كلمة كاذبة تحت شعار أنا لا أكذب ولكنى أتجمل